كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: جوابه ما يدل عليه قوله: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة} والتقدير: حتى إذا فشلتم صرتم فريقين. والمراد بالفشل الجبن والخور، وبالتنازع أن الرماة لما هزم المشركون ونساؤهم يصعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخلهن قالوا: الغنيمة. فقال عبد الله بن جبير أمير الرماة: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نبرح هذا المكان. فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة، وبقي عبد الله مع طائفة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون. وقوله: {في الأمر} إما أن يكون بمعنى الشأن والقصة أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن، أو بمعنى الأمر الذي يضاد النهي أي تنازعتم فيما أمركم الرسول به وعصيتم بترك ملازمة ذلك المكان.
وإنما قدم ذكر الفشل على التنازع والمعصية كأنهم فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعًا في الغنيمة، ثم تنازعوا من طريق القول في أنا هل نذهب في طلب الغنيمة أم لا، ثم اشتغل بعضهم بطلب الغنيمة وإنما ورد الخطاب عامًا وإن كانت المعصية بمفارقة ذلك الموضع خاصة بالبعض اعتمادًا على المخصص بعده وهو قوله: {ومنك من يريد الآخرة} وفائدة قوله: {من بعد ما أراكم ما تحبون} التنبيه على عظم شأن المعصية لأنهم لما شاهدوا أن الله أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم. قوله: {ثم صرفكم عنهم} قالت الأشاعرة: معنى هذا الصرف أنه تعالى رد المسلمين عن الكفار وحالت الريح دبورًا وكانت صبًا حتى وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل منهم من قتل واستولى الكفرة. ولا يتوجه عليهم إشكال أن من مذهبهم أن الخير والشر بإرادة الله وتخليقه. وأما المعتزلة فلم يرضوا بهذا التفسير وقالوا: كيف يضيف الصرف بهذا المعنى إلى نفسه والصرف عن الكفار معصية وقد أضافها إلى الشيطان في قوله: {إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا} وأيضا أنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف، ولو كان بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه كما لا يجوز المعاتبة على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم؟ فعند ذلك ذكروا في تأويل الآية وجوهًا. قال الجبائي: إن الرماة كانوا فريقين: بعضهم فارقوا المكان أوّلًا لطلب الغنائم، وبعضهم بقوا هناك إلى أن أحاط بهم العدو، وعلموا أنهم لو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلًا، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه فتحصنوا به، فلما كان ذلك الانصراف جائزًا أضافة الله إلى نفسه بمعنى أنه كان يأمره وبإذانه. ثم قال: {ليبتليكم} والمراد أنه تعالى لما صرفهم إلى ذلك المكان وتحصنوا فيه أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين. ولا شك أن الإقدام على الجهاد بعد الانهزام وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقاربهم وأحبائهم، من أعظم أنواع الابتلاء، فإذن الآية مشتلمة على المعذورين، في الانصراف وعلى غير المعذورين. فقوله: {ثم صرفكم عنهم} يرجع إلى المعذورين، وقوله: {ولقد عفا عنكم} يرجع إلى غير المعذورين. وسبب العفو ما علم من ندمهم على ما فرط منهم من عصيان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الكعبي: {ثم صرفكم عنهم} بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم {ليبتليكم} بكثرة الأنعام عليكم والتخفيف عنكم. وقال أبو مسلم الأصفهاني: المعنى من الصرف نه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة لهم على عصيانهم وفشلهم، ومعنى الابتلاء أنه جعل ذلك الصرف محنة عليهم ليتوبوا عما خالفوا فيه أمره، ثم أعلمهم أنه قد عفا عنهم.
قال القاضي: ظاهر قوله: {ولقد عفا عنكم} يقتضي تقدم ذنب منهم. فإن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بالعفو عنهم من غير توبة، وإن كان من باب الكبائر فلابد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو. وقالت الأشاعرة: لا شك أن ذلك الذنب كان من الكبائر لأنهم خالفوا صريح نص الرسول، وصارت تلك المخالفة سببًا لانهزام عسكر الإسلام ولقتل جم غفير من الصحابة. ثم إن ظاهر الآية دل على أنه تعالى قد عفا عنهم من غير توبة لأنها غير مذكورة فصارت الآية دليلًا على أنه قد يعفو عن أصحاب الكبائر.
{والله ذو فضل على المؤمنين} يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال، سواء كانت الدولة لهم أو عليهم، لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة وقد يستدل بالآية على أن صاحب الكبيرة مؤمن لأنه سماهم مؤمنين خلاف ما يقوله المعتزلة من أنه لا مؤمن ولا كافر.
قوله سبحانه: {إذ تصعدون} إما مستأنف بإضمار واذكر وإما أن يتعلق بما قبله أي عفا عنكم إذ تصعدون، لأن ما صدر عنهم من فارقة ذلك الماكن والأخذ في الوادي كالمنهزمين ذنب اقترفوه. أو المعنى ليبتليكم إذ تصعدون، أو ثم صرفكم حين إصعادكم، والإصعاد الذهاب في الأرض والإبعاد فيها. قال أبو معاذ النحوي: كل شيء له أسفل وأعلى كالوادي والنهر والأزقة فيقال فيه أصعد إذا أخذ من أسفله إلى اعلاه، وأما ما ارتفع كالسلم واحبل فإنه يقال صعد {ولا تلوون على أحد} لا تلتفتون إليه، وأصله أن المعرّج على لاشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته.
{والرسول يدعوكم} كان يقول: إليّ عباد الله، أنا رسول الله من كَرَّ فله الجنة. فيحتمل أنه كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ولا يتفرقوا، ويحتمل أنه كان يدعوهم إلى محاربة العدو.
{في أخراكم} في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه صلى الله عليه وسلم وبقي هو في الجماعة المتأخرة. يقال: جئت في آخر الناس وأخراهم كما تقول في أوّلهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى.
{فأثابكم} قال في الكشاف: أنه عطف على صرفكم. وأقول: لا يبعد أن يعطف على {تصعدون} لأنه بمعنى أصعدتم بدليل أن يقال: ثاب إليه أي رجع. والمرأة تسمى ثيبًا لأن واطئها عائدًا إليها. فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله خيرًا كان أو شرًا إلا أن العرف خصه بالخير.
فإن حملنا لفظ الآية على أصل اللغة استقام بلا تأويل، وإن حملناه على مقتضى العرف كان واردًا على سبيل التهكم كقولهم: عتابك السيف وتحيتك الضرب. أي جعل مكان ما يرجون من الثواب الغم وهو في الصل التعطية ومنه الغمام، فكأن الغم يستر وجه اللذة والسرور. والباء في {بغم} يحتمل أن تكون بمعنى المعاوضة نحو: بعت هذا بذاك، ويحتمل أن تكون بمعنى المصاحبة. أما الاحتمال الأول ففيه وجوه: قال الزجاج: إنكم لما أذقتم الرسول غمًا بسبب عصيان أمره، أذاقكم الله غم الانهزام. وقيل: المجازاة والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم. وقال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين. وفي الكشاف: يجوز أن يكون الضمير في {فأثابكم} للرسول أي فآساكم في الاغتنام. فكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته وشج وجهه وقتل عمه وغيره، غمه ما نزل بكم من قتل الأعزة ومن الانضمام في سلك العصاة لطلب الغنيمة ثم الحرمان عنها. وأما الاحتمال الثاني ففيه وجهان: أحدهما أن يكون هناك غمان: الأوّل ما أصابهم عند الفشل والتنازع، والثاني ما حصل عند الهزيمة. أو الأول غم فوت الغنائم، والثاني أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعًا عظيمًا. أو الأول هذا والثاني خوفهم من رجوع المشركين واستئصال المسلمين. أو الأول ما أصابهم في أنفسهم وأموالهم، والثاني غم الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم. أو الأول خوف عقاب المعصية، والثاني غم التوبة فإنها لا تتم إلا بالعود إلى المحاربة، وإذا أمر بالمعاودة يعد القلة والذلة فإن فعل غلب على ظنه القتل، وإن لم يفعل خاف الكفر وعقوبة الآخرة. وثانيهما أن يراد بغم مع مواصلة الغموم وتتابعها وكثرتها، فيشمل جميع الغموم المعدودة وما ينخرط في سلكها. ثم اللام في قوله: {لكيلا تحزنوا} يحتمل أن يتعلق بقوله: {ولقد عفا عنكم} لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل هم وحزن، وإما أن يتعلق بقوله: {فأثابكم} فيكون المعنى على قول الزجاج: أنه عاقبهم بغم الهزيمة ليتمرنوا على تجرع الغموم واحتمال الشدائد فلا يحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار، وليصير ذلك زاجرًا لهم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله. وعلى قول الحسن: جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلهم مغمومين يوم بدر لكيلا تحزنوا بإدبار الدنيا ومصائبها، ولا تفرحوا بإقبالها وعوائده. قالت الأشاعرة: معنى إثابة الغم من الله تعالى خلق الغم فيهم ولا يقبح منه شيء. وأما المعتزلة فإنهم يقولون: الغم فعل العبد لكنه أسند إليه تعالى لأنه طبع العباد طبعًا يغتمون بالمصائب وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون.
وإن سلم أنه بخلق الله فلرعاية المصالح، وليس الغرض تسليط الكفار على المسلمين فإن ذلك كفر ومعصية، ولكن الغرض أن لا يبقى في قلوب المؤمنين اشتغال بغير الله، ولا يحزنوا بالإدبار ولا يفرحوا بالإقبال. وإن جعل الإثابة مسندًا إلى الرسول فإنما فعل ذلك ليسليهم وينفس عنهم لئلا يحزنوا على ما فاتهم من نصر الله ولا على ما أصابهم من غلبة العدوّ. وإن جعلت الباء بمعنى مع فالمعنى كما في قول الزجاج: أو المراد أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا وقعنا في غم فوت الغنيمة، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في غموم أخر كل واحد منها أعظم من ذلك، فيصير هذا مانعًا لهم من أن يحزنوا على فوات الغنيمة في وقعة أخرى. ثم كما زجرهم على تلك المعصية بزاجر دنيوي زجرهم بزاجر أخروي فقال: {والله خبير بما تعملون} عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم فيجازيكم بحسب ذلك. ثم أخبر أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان: أحدهما الجازمون بحقية هذا الدين وأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال لإخبار الصادق أن هذا الدين سيظهر على سائر لأديان، فخاطب الجماعة بقوله: {ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا} وأراد هؤلاء بقوله: {يغشى طائفة منكم} والأمنة مصدر كالأمن ومثله من المصادر العظمة والغلبة. والنعاس فتور في أوائل النوم. وانتصاب {أمنة} على أنها حال متقدمة من {نعاسًا} مثل: رأيت راكبًا رجلًا، أو مفعول له بمعنى نعستم أمنة، أو على أنه حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة، أو على أنه جمع آمن كبارّ وبررة، أو على أنه مفعول {أنزل} و{نعاسًا} بدل منه. قال أبو طلحة: غشانا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه وما أحد إلاّ ويميل تحت حجفته.
وعن الزبير: كنت مع الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف فأرسل الله علينا النوم. والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول: {ولو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} وعن ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان. وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله. وكان في ذلك النعاس فوائد منها: أن شموله للمؤمنين كلهم لا في الوقت المعتاد معجزة ظاهره جديدة له صلى الله عليه وسلم موجبة لزيادة وثوقهم بأن الله ينجز وعده وينصرهم، فيزداد جدهم واجتهادهم في الجهاد. ومنها أن الأرق والسهر يوجبان الفتور والكلال، والنعاس يجدد القوة والنشاط. ومنها شغلهم عن مشاهدة قتل الأعزة والأحبة.
ومنها أن الأعداء كانوا حراصًا متهالكين في قتلهم. فبقاؤهم سالمين في تلك المعركة وهم في النوم من أدل الدلائل على أن حفظ الله ولكلاءته معهم. ومن الناس من زعم أن ذكر النعاس هاهنا كناية عن غاية الأمن وهذا صرف للفظ عن ظاهره من غير ضرورة مع أن فيه إبطال الفوائد والحكم المذكورة. واعلم أن من قرأ {تغشى} بالتاء فللعود إلى الأمنة ويؤيده أن الأمنة مقصودة بالذات، والنعاس مقصود بالعرض، ولأنها متبوع وأنه تابع. ومن قرأ بالياء فللعود إلى النعاس، وينصره كونه أقرب، وكون المبدل منه في حكم النحي، وموافقته لقوله في قصة بدر {إذ يغشيكم النعاس} [الأنفال: 11] ولأن العرب تقول: غشية النعاس، وقلما يقولون غشية الأمن، ولأن النعاس والأمنة لما كانا شيئًا واحدًا كان التذكر أولى. وأما الفريق الثاني فهم المنافقون الذين كانوا في شك من نبوته صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمة كعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم، فأخبر عنهم بقوله: {وطائفة قد أهمتهم أنفسهم} ما بهم إلا هَمُّ أنفسهم لا همَّ الدين ولا همَّ النبي ولا المسلمين. والهمّ الأمر الشديد. ويقال: أهمه ذلك الأمر أي أقلقه وأحزنه. فالمعنى أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان منهم بسبب التشكك وعد الثبات. والتحقيق فيه أن الإنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه صار غافلًا عما سواه، فلما كان أحب الأشياء عندهم هو النفس، وكانت أسباب لاخوف على النفس هناك موجودة والدافع لذلك وهو الوثوق بنصر الله ووعده غير حاصل لهم فلم يكن لهم هناك إلا هَمُّ أنفسهم.
{يظنون بالله غير الحق} وهو في حكم المصدر أي غير الظن الحق الذي يحب أن يظن به. و{ظن الجاهلية} بدل منه. والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة، وأرداها مقالات أهل الجاهلية فذكر أولًا أنهم يظنون بالله ظنًا باطلًا، ثم بين أنهم اختاروا من الأديان أرذلها كما يقال: فلان دينه ليس بحق دينه دين الملاحدة. أو {ظن الجاهلية} مصدر و{غير الحق} تأكيد لـ {يظنون} كقولك: هذا القول غير ما تقول. و{ظن الجاهلية} كقولك: حاتم الجود ورجل صدق. مما أضيق للملابسة أي الظن المختص بالملة الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام. أو أريد ظن أهل الجاهلية وهم أهل الشرك الجاهلون بالله. فالجاهلية مصدر كالعالمية القادرية. قيل: إن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون الإله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات، وينكرون النبوة والمعاد، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقوّيهم وينصرهم. وقيل: الظن هو أنهم كانوا يقولون: لو كان محمد نبيًا حقًا لم يسلط الله الكفار عليه، وهذا ظن فاسد. أما عند أهل السنة فلأنه تعالى فاعل لما يشاء ولا اعتراض لأحد عليه، وإذا شرف المولى عبده بخلقة لم يجب أن يشرفه بأخرى.
وأما عند من يعتبر المصالح في أفعاله وأحكامه فلا يبعد أن يكون في التخلية بين الكافر والمسلم وغير ذلك من المصائب حكم خفية. ولو كان كون المؤمن محقًا يوجب زوال المصائب عنه اضطر الناس إلى معرفة الحق، وكان ينافي التكاليف واستحقاق الثواب والعقاب. وإنما يعرف كون الإنسان محقًا بالدلائل والبينات، ولا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة والمال والجاه على حقية صاحبها والله أعلم.
{يقولون هل لنا من الأمر من شيء} حكاية شهة تمسك بها أهل النفاق فاستفهموا عنها على سبيل الإنكار. وإنما يحتمل وجوها: أحدها هل لنا من التدبير من شيء يعنون رأي عبد الله بن أبي وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل قوله حين أمره أن يسكن في المدينة ولا يخرج منها. ونظيره ما حكى عنه {لو أطاعونا ما قتلوا} [آل عمران: 168] وثانيها من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لأحد قالوا له الأمر، وإذا كانت لعدوّه قالوا عليه الأمر. أي هل لنا من الأمر الذي كان يعدنا به محمد وهو النصر والقدرة شيء؟ وثالثها أنطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ والغرض منه تعيير المسلمين على التسديد في الجهاد، فأمره الله تعالى أن يجيب عنها بقوله: {قل إن الأمر كله لله} والحوادث بأسرها مستندة إلى قضائه وقدره. فإذا كان قدر الخروج إلى الكفار واختصاص جمع من الصحابة بالشهادة فلا مفر من ذلك، وإذا أراد إعلاء كلمة الإسلام وإظهار هذا الدين على الأديان وقع لا محالة.
{يخفون في أنفسهم} في ضمائرهم أو فيما بينهم {ما لا يبدون لك} وذلك المخفي قولهم: {لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا} أي لو كان هذا الدين حقًا لما سلط الله الكفار على من يذب عنه، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة، فأمر الله تعالى نبيه أن يجيبهم بقوله: {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} وهي مصارعهم التي قتلوا فيها، لأن ما كتب الله في اللوح لم يكن بد من وجوده. فلو قعدتم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم أن يقتلوا في المصارع المعلومة حتى يوجد ما علم الله وجوده. وقيل: معناه لو تخلفتم أيها المنافقون عن الجهاد، لخرج المؤمنون الذين كتب الله عليهم قتال الكفار إلى مصارعهم ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم، على أن البروز إلى هذه المصارع لا يخلو عن الفوائد وذلك قوله: {وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم} خص الابتلاء بما في الصدور والتمحيص بما في القلوب إما لاختلاف العبارة، وإما لأن الابتلاء محله القلب الذي في الصدر.